فصل: فصــل: ما قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصــل

والقسم الثالث‏:‏ ما قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أنه سن الأمرين، لكن بعض أهل العلم حرم أحد النوعين، أو كرهه؛ لكونه لم يبلغه، أو تأول الحديث تأويلا ضعيفًا‏.‏ والصواب في مثل هذا أن كل ما سنه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأمته، فهو مسنون، لا ينهى عن شيء منه، وإن كان بعضه أفضل من ذلك‏.‏

فمن ذلك أنواع التشهدات‏:‏ فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم تشهد ابن مسعود، وثبت عنه في صحيح/ مسلم تشهد أبي موسى، وألفاظه قريبة من ألفاظه‏.‏ وثبت عنه في صحيح مسلم تشهد ابن عباس‏.‏

وفي السنن تشهد ابن عمر، وعائشة، وجابر‏.‏ وثبت في الموطأ وغيره أن عمر بن الخطاب علم المسلمين تشهدًا على منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن عمر ليعلمهم تشهدًا يقرونه عليه إلا وهو مشروع، فلهذا كان الصواب ـ عند الأئمة المحققين ـ أن التشهد بكل من هذه جائز، لا كراهة فيه‏.‏ ومن قال‏:‏ إن الإتيان بألفاظ تشهد ابن مسعود واجب كما قاله بعض أصحاب أحمد، فقد أخطأ‏.‏

ومن ذلك الأذان والإقامة‏:‏ فإنه قد ثبت في الصحيح عن أنس أن بلالًا أُمِرَ أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، وثبت في الصحيح أنه علم أبا محذورة الأذان والإقامة، فرجَّع في الأذان، وثنّى الإقامة‏.‏ وفي بعض طرقه أنه كبر في أوله أربعًا، كما في السنن‏.‏ وفي بعضها أنه كبر مرتين، كما في صحيح مسلم‏.‏ وفي السنن أن أذان بلال الذي رواه عبد اللّه بن زيد ليس فيه ترجيع للأذان، ولا تثنية للإقامة، فكل واحد من أذان بلال وأبي محذورة سنة، فسواء رجع المؤذن في الأذان، أو لم يرجع، وسواء أفرد الإقامة، أو ثناها، فقد أحسن، واتبع السنة‏.‏

/ومن قال‏:‏ إن الترجيع واجب، لابد منه، أو أنه مكروه منهي عنه، فكلاهما مخطئ، وكذلك من قال‏:‏ إن إفراد الإقامة مكروه، أو تثنيتها مكروه، فقد أخطأ‏.‏ وأما اختيار أحدهما فهذا من مسائل الاجتهاد، كاختيار بعض القراءات على بعض، واختيار بعض التشهدات على بعض‏.‏

ومن هذا الباب أنواع ‏[‏صلاة الخوف‏]‏ التي صلاها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكذلك أنواع ‏[‏الاستسقاء‏]‏‏.‏ فإنه استسقي مرة في مسجده بلا صلاة الاستسقاء، ومرة خرج إلى الصحراء فصلي بهم ركعتين، وكانوا يستسقون بالدعاء بلا صلاة، كما فعل ذلك خلفاؤه، فكل ذلك حسن جائز‏.‏

ومن هذا الباب الصوم والفطر للمسافر في رمضان‏:‏ فإن الأئمة الأربعة اتفقوا على جواز الأمرين، وذهب طائفة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز إلا الفطر، وأنه لو صام لم يجزئه‏.‏ وزعموا أن الإذن لهم في الصوم في السفر منسوخ بقوله‏:‏ ‏(‏ليس من البر الصيام في السفر‏)‏ والصحيح ما عليه الأئمة‏.‏ وليس في هذا الحديث ما ينافي إذنه لهم في الصيام في السفر‏.‏ فإنه نفي أن يكون من البر، ولم ينف أن يكون جائزًا مباحا‏.‏ والفرض يسقط بفعل النوع الجائز المباح إذا أتي بالمأمور به‏.‏

/والمراد به كونه في السفر ليس من البر، كما لو صام وعَطَّشَ نفسه بأكل المالح، أو صام وأضحي للشمس، فإنه يقال‏:‏ ليس من البر الصيام في الشمس‏.‏ ولهذا قال سفيان بن عُيَينة‏:‏ معناه ‏:‏ليس من صام بأبر ممن لم يصم‏.‏

ففي هذا ما دل على أن الفطر أفضل‏.‏ فإنه آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فإنه صام أولا في السفر؛ ثم أفطر فيه‏.‏ ومن كان يظن أن الصوم في السفر نقص في الدين، هذا مبتدع ضال وإذا صام على هذا الوجه معتقدًا وجوب الصوم عليه، وتحريم الفطر، فقد أمر طائفة من السلف والخلف بالإعادة‏.‏

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن حمزة بن عمرو سأله فقال‏:‏ إنني رجل أكثر الصوم، أفأصوم في السفر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس‏)‏ ‏.‏ فإذا فعل الرجل في السفر أيسر الأمرين عليه من تعجيل الصوم أو تأخيره، فقد أحسن‏.‏ فإن اللّه يريد بنا اليسر، ولا يريد بنا العسر‏.‏ أما إذا كان الصوم في السفر أشق عليه من تأخيره، فالتأخير أفضل، فإن في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏(‏إن اللّه يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته‏)‏ وأخرجه بعضهم إما ابن خزيمة، وإما غيره في صحيحه‏.‏ وهذه الصحاح مرتبتها دون مرتبة صحيحي البخاري ومسلم‏.‏

/وأما صوم يوم الغيم إذا حال دون منظر الهلال غيم، أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان، فكان في الصحابة من يصومه احتياطًا، وكان منهم من يفطر، ولم نعلم أحدًا منهم أوجب صومه، بل الذين صاموه إنما صاموه على طريق التحري والاحتياط، والآثار المنقولة عنهم صريحة في ذلك، كما نقل عن عمر، وعلي، ومعاوية، وعبد اللّه بن عمر، وعائشة، وغيرهم‏.‏

والعلماء متنازعون فيه على أقوال‏:‏ منهم من نهى عن صومه نهي تحريم أو تنزيه، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب مالك والشافعي وأحمد‏.‏ ومنهم من يوجبه كما يقول ذلك طائفة من أصحاب أحمد‏.‏ ومنهم من يشرع فيه الأمرين بمنزلة الإمساك إذا غم مطلع الفجر، وهذا مذهب أبي حنيفة، وهو المنصوص عن أحمد، فإنه كان يصومه على طريق الاحتياط اتباعًا لابن عمر وغيره، لا على طريق الإيجاب، كسائر ما يشك في وجوبه، فإنه يستحب فعله احتياطًا من غير وجوب‏.‏

وإذا صامه الرجل بنية معلقة بأن ينوي إن كان من رمضان أجزأه وإلا فلا، فتبين أنه من رمضان أجزأه ذلك عند أكثر العلماء،وهو مذهب أبي حنيفة، وأصح الروايتين عن أحمد وغيره‏.‏ فإن النية تتبع العلم، فمن علم ما يريد فِعْلَه، نواه بغير اختياره، وأما إذا لم يعلم الشيء فيمتنع أن يقصده‏.‏/فلا يتصور أن يقصد صوم رمضان جزما من لم يعلم أنه من رمضان‏.‏

وقد يدخل في هذا الباب القصر في السفر، والجمع بين الصلاتين‏.‏ والذي مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقصر في السفر، فلا يصلي الرباعية في السفر إلا ركعتين، وكذلك الشيخان بعده أبو بكر ثم عمر‏.‏

وما كان يجمع في السفر بين الصلاتين إلا أحيانًا عند الحاجة، لم يكن جمعه كقصره، بل القصر سنة راتبة، والجمع رخصة عارضة‏.‏فمـن نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ربّع في السفر الظهر أو العصر أو العشاء، فهذا غلط‏.‏ فإن هذا لم ينقله عنه أحد لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف‏.‏ ولكن روي بعض الناس حديثًا عن عائشة أنها قالت‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في السفر يقصر، وتتم، ويفطر، وتصوم فسألته عن ذلك، فقال‏:‏ ‏(‏أحسنت يا عائشة‏)‏ فتوهم بعض العلماء أنه هو كان الذي يقصر في السفر ويتم، وهذا لم يروه أحد‏.‏ ونفس الحديث المروي في فعلها باطل، ولم تكن عائشة ولا أحد غيرها ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلا كصلاته، ولم يصل معه أحد أربعا قط لا بعرفة ولا بمزدلفة ولا غيرهما، لا من أهل مكة ولا من غيرهم، بل جميع المسلمين كانوا يصلون معه ركعتين، وكان يقيم بمنى أيام الموسم يصلي بالناس ركعتين، وكذلك بعده أبو بكر، ثم عمر/ ثم عثمان بن عفان في أول خلافته، ثم صلى بعد ذلك أربعًا لأمور رآها تقتضي ذلك، فاختلف الناس عليه، فمنهم من وافقه، ومنهم من خالفه‏.‏

ولم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إلا بعرفة وبمزدلفة خاصة‏.‏ لكنه كان إذا جد به السير في غير ذلك من أسفاره، أخر المغرب إلى بعد العشاء، ثم صلاهما جميعًا، ثم أخر الظهر إلى وقت العصر فصلاهما جميعًا ‏.‏ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء أن القصر في السفر يجوز، سواء نوي القصر أو لم ينوه‏.‏ وكذلك الجمع حيث يجوز له سواء نواه مع الصلاة الأولى، أو لم ينوه، فإن الصحابة لما صلوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة الظهر ركعتين، ثم العصر ركعتين، لم يأمرهم عند افتتاح صلاة الظهر بأن ينووا الجمع، ولا كانوا يعلمون أنه يجمع؛ لأنه لم يفعل ذلك في غير سفرته تلك، ولا أمر أحدًا خلفه لا من أهل مكة، ولا غيرهم أن ينفرد عنه، لا بتربيع الصلاتين، ولا بتأخير صلاة العصر، بل صلوها معه‏.‏

وقد اتفق العلماء على جواز القصر في السفر، واتفقوا أنه الأفضل إلا قولًا شاذًا لبعضهم‏.‏ واتفقوا أن فعل كل صلاة في وقتها في السفر أفضل إذا لم يكن هناك سبب يوجب الجمع، إلا قولًا شاذًا لبعضهم‏.‏

/والقصر سـببه السفـر خاصة، لا يجـوز في غـير السفـر‏.‏ وأمـا الجمـع فسـببه الحاجـة والعـذر‏.‏ فإذا احتاج إليه، جمع في السفر القصير، والطويل‏.‏ وكذلك الجمع للمطر ونحوه، وللمرض ونحوه، ولغير ذلك من الأسباب، فإن المقصود به رفع الحرج عن الأمة، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع في السفر وهو نازل إلا في حديث واحد‏.‏ ولهذا تنازع المجوزون للجمع‏.‏ كمالك والشافعي وأحمد‏:‏ هل يجوز الجمع للمسافر النازل‏؟‏ فمنع منه مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وجوزه الشافعي وأحمد في الرواية الأخري، ومنع أبو حنيفة الجمع إلا بعرفة ومزدلفة‏.‏

ومن هذا الباب التمتع والإفراد والقران في الحج‏.‏ فإن مذهب الأئمة الأربعة وجمهور الأمة جواز الأمور الثلاثة‏.‏

وذهب طائفة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز إلا التمتع، وهو قول ابن عباس ومن وافقه من أهل الحديث والشيعة‏.‏ وكان طائفة من بني أمية ومن اتبعهم ينهون عن المتعة، ويعاقبون من تمتع‏.‏

وقد تنازع العلماء في حج النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل تمتع فيه، أو أفرد أو قرن، وتنازعوا أي الثلاثة أفضل‏؟‏ فطائفة من أصحاب أحمد تظن أنه تمتع تمتعًا حل فيه من إحرامه‏.‏ وطائفة أخرى تظن أنه أحرم بالعمرة، ولم يحرم بالحج حتى طاف وسعي للعمرة‏.‏/ وطائفة من أصحاب مالك والشافعي، تظن أنه أفرد الحج واعتمر عقيب ذلك‏.‏ وطائفة من أصحاب أبي حنيفة تظن أنه قرن قرانًا طاف فيه طوافين، وسعي فيه سعيين‏.‏ وطائفة تظن أنه أحرم مطلقًا‏.‏ وكل ذلك خطأ لم تروه الصحابة ـ رضوان اللّه عليهم ـ بل عامة روايات الصحابة متفقة، ومن نسبهم إلى الاختلاف في ذلك فلعدم فهمه أحكامهم‏.‏ فإن الصحابة نقلوا أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج، هكذا الذي نقله عامة الصحابة‏.‏ ونقل غير واحد من هؤلاء وغيرهم، أنه قرن بين العمرة والحج، وأنه أهل بهما جميعًا، كما نقلوا أنه اعتمر مع حجته، مع اتفاقهم على أنه لم يعتمر بعد الحج، بل لم يعتمر معه من أصحابه بعد الحج إلا عائشة؛ لأجل حيضتها‏.‏

ولفظ ‏[‏المتمتع‏]‏ في الكتاب والسنة وكلام الصحابة اسم لمن جمع بين العمرة والحج في أشهر الحج، سواء أحرم بهما جميعًا، أو أحرم بالعمرة، ثم أدخل عليها الحج، أو أحرم بالحج بعد تحلله من العمرة، وهذا هو التمتع الخاص في عرف المتأخرين، وأحرم بالحج بعد قضاء العمرة قبل التحلل منها لكونه ساق الهدي، أو مع كونه لم يسقه، وهذا قد يسمونه متمتعًا التمتع الخاص، وقارنًا‏.‏ وقد يقولون‏:‏ لا يدخل في التمتع الخاص، بل هو قارن‏.‏

وما ذكرته من أن القران يسمونه تمتعًا، جاء مصرحا به في أحاديث /صحيحة‏.‏ وهؤلاء الذين نقلوا أنه تمتع نقل بعضهم أنه أفرد الحج، فإنه أفرد أعمال الحج، ولم يحل من إحرامه لأجل سوقه الهدي، فهو لم يتمتع متعة حل فيها من إحرامه، فلهذا صار كالمفرد من هذا الوجه‏.‏

وأما الأفضل لمن قدم في أشهر الحج ولم يسق الهدي، فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل له كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجة الوداع‏.‏ فإنه أمر كل من لم يسق الهدي بالتمتع‏.‏ ومن ساق الهدي، فالقِرَان له أفضل، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومن اعتمر في سفرة، وحج في سفرة‏.‏ أو اعتمر قبل أشهر الحج، وأقام حتى يحج، فهذا الإفراد له أفضل من التمتع والقران، باتفاق الأئمة الأربعة‏.‏

وأما القسم الرابع‏:‏ فهو مما تنازع العلماء فيه‏:‏ فأوجب أحدهم شيئًا أو استحبه وحرمه الآخر، والسنة لا تدل إلا على أحد القولين لم تسوغهما جميعا، فهذا هو أشكل الأقسام الأربعة‏.‏ وأما الثلاثة المتقدمة، فالسنة قد سوغت الأمرين‏.‏

وهذا مثل تنازعهم في قراءة الفاتحة خلف الإمام حال الجهر‏.‏ فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال‏.‏ قيل‏:‏ ليس له أن يقرأ حال جهر الإمام إذا كان يسمع، لا بالفاتحة، ولا غيرها، وهذا قول الجمهور من السلف/والخلف،وهذا مذهب مالك وأحمد، وأبي حنيفة وغيرهم، وأحد قولي الشافعي‏.‏ وقيل‏:‏ بل يجوز الأمران، والقراءة أفضل‏.‏ ويروي هذا عن الأوزاعي، وأهل الشام، والليث بن سعد، وهو اختيار طائفة من أصحاب أحمد، وغيرهم‏.‏ وقيل‏:‏ بل القراءة واجبة، وهو القول الآخر للشافعي‏.‏

وقول الجمهور هو الصحيح، فإن اللّه ـ سبحانه ـ قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 204‏]‏،

قال أحمد‏:‏ أجمع الناس على أنها نزلت في الصلاة‏.‏ وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا‏.‏ وإذا قرأ فأنصتوا‏.‏ وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا‏.‏ فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم، فتلك بتلك‏)‏ الحديث إلى آخره‏.‏ وروي هذا اللفظ من حديث أبي هريرة ـ أيضًا، وذكر مسلم أنه ثابت‏:‏ فقد أمر اللّه ورسوله بالإنصات للإمام إذا قرأ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من جملة الائتمام به‏.‏ فمن لم ينصت له، لم يكن قد ائتم به‏.‏ ومعلوم أن الإمام يجهر لأجل المأموم، ولهذا يؤمن المأموم على دعائه‏.‏ فإذا لم يستمع لقراءته، ضاع جهره‏.‏ ومصلحة متابعة الإمام مقدمة على مصلحة ما يؤمر به المنفرد‏.‏ ألا ترى أنه لو أدرك الإمام في وتر من صلاته فعل كما يفعل، فيتشهد عقيب الوتر، /ويسجد بعد التكبير إذا وجده ساجدًا،كل ذلك لأجل المتابعة،فكيف لا يستمع لقراءته‏!‏ مع أنه بالاستماع يحصل له مصلحة القراءة‏؟‏ فإن المستمع له مثل أجر القارئ‏.‏

ومما يبين هذا اتفاقهم كلهم على أنه لا يقرأ معه فيما زاد على الفاتحة إذا جهر، فلولا أنه يحصل له أجر القراءة بإنصاته له، لكانت قراءته لنفسه أفضل من استماعه للإمام، وإذا كان يحصل له بالإنصات أجر القارئ، لم يحتج إلى قراءته، فلا يكون فيها منفعة، بل فيها مضرة شغلته عن الاستماع المأمور به، وقد تنازعوا إذا لم يسمع الإمام لكون الصلاة صلاة مخافتة، أو لبعد المأموم، أو طرشه، أو نحو ذلك، هل الأولى له أن يقرأ أو يسكت‏؟‏ والصحيح أن الأولى له أن يقرأ في هذه المواضع؛ لأنه لا يستمع قراءة يحصل له بها مقصود القراءة، فإذا قرأ لنفسه، حصل له أجر القراءة وإلا بقي ساكتًا لا قارئا ولا مستمعًا، ومن سكت غير مستمع ولا قارئ في الصلاة، لم يكن مأمورًا بذلك، ولا محمودًا، بل جميع أفعال الصلاة لابد فيها من ذكر اللّه تعالي‏:‏ كالقراءة، والتسبيح، والدعاء، أو الاستماع للذكر‏.‏

وإذا قيل‏:‏ بأن الإمام يحمل عنه فرض القراءة، فقراءته لنفسه أكمل له، وأنفع له، وأصلح لقلبه، وأرفع له عند ربه،والإنصات/لا يؤمر به إلا حال الجهر، فأما حال المخافتة، فليس فيه صوت مسموع، حتى ينصت له ‏.‏

ومن هذا الباب‏:‏ فعل الصلاة التي لها سبب، مثل تحية المسجد بعد الفجر، والعصر‏.‏ فمن العلماء من يستحب ذلك، ومنهم من يكرهه كراهة تحريم أو تنزيه‏.‏ والسنة إما أن تستحبه، وإما أن تكرهه‏.‏ والصحيح قول من استحب ذلك، وهو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، اختارها طائفة من أصحابه‏.‏ فإن أحاديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات مثل قوله‏:‏ ‏(‏لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس‏)‏ عموم مخصوص، خص منها صلاة الجنائز باتفاق المسلمين، وخص منها قضاء الفوائت بقوله‏:‏‏(‏ من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح‏)‏ ‏.‏

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضي ركعتي الظهر بعد العصر، وقال للرجلين اللذين رآهما، لم يصليا بعد الفجر في مسجد الخيف‏:‏ ‏(‏إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة‏)‏ ، وقد قال‏:‏ ‏(‏يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت، وصلى فيه أية ساعة شاء من ليل أو نهار‏)‏ ‏.‏ فهذا المنصوص يبين أن ذلك العموم خرجت منه صورة‏.‏

/أما قوله‏:‏ ‏(‏إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين‏)‏ فهو أمر عام لم يخص منه صورة، فلا يجوز تخصيصه بعموم مخصوص، بل العموم المحفوظ أولى من العموم المخصوص‏.‏

وأيضًا، فإن الصلاة والإمام على المنبر، أشد من الصلاة بعد الفجر والعصر، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين‏)‏ فلما أمر بالركعتين في وقت هذا النهي، فكذلك في وقت ذلك النهي، وأولي‏.‏ ولأن أحاديث النهي في بعضها‏:‏ ‏(‏لا تتحروا بصلاتكم‏)‏ ، فنهى عن التحري للصلاة ذلك الوقت‏.‏ ولأن من العلماء من قال‏:‏ إن النهي فيها نهي تنزيه لا تحريم‏.‏

ومـن السلف مـن جـوز التطـوع بعد العصر مطلقًا، واحتجوا بحديث عائشة؛ لأن النهي عـن الصـلاة إنما كـان سـدًا للذريعة إلى التشبه بالكفار وما كان منهيا عنه للذريعة، فـإنه يفعـل لأجـل المصلحة الراجحة‏.‏ كالصلاة التي لها سبب تفوت بفوات السبب، فإن لم تفعـل فـيه، وإلا فـاتت المصلحـة‏.‏ والتطوع المطلـق لا يحتـاج إلى فعلـه وقت النهـي، فـإن الإنسان لا يستغرق الليل والنهار بالصـلاة، فلم يكن في النهي تفويت مصلحة، وفي فعله فيـه مفسـدة، بخلاف التطوع الذي له سبب يفوت‏:‏ كسجدة التلاوة، وصلاة الكسوف، ثم إنه إذا جاز ركعتا الطواف مع إمكان تأخير/ الطواف، فما يفوت أولي أن يجوز‏.‏

وطائفة من أصحابنا يجوزون قضاء السنن الرواتب دون غيرها، لكون النبي صلى الله عليه وسلم قضي ركعتي الظهر، وروي عنه أنه رخص في قضاء ركعتي الفجر، فيقال‏:‏ إذا جاز قضاء السنة الراتبة مع إمكان تأخيرها، فما يفوت كالكسوف وسجود التلاوة وتحية المسجد أولي أن يجوز، بل قد ثبت بالحديث الصحيح قضاء الفريضة في هذا الوقت، مع أنه قد يستحب تأخير قضائها، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم قضاء الفجر لما نام عنها في غزوة خيبر‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إن هذا واد حضرنا فيه الشيطان‏)‏ فإذا جاز فعل ما يمكن تأخيره، فما لا يمكن ولا يستحب تأخيره أولي‏.‏ وبسط هذه المسائل لا يمكن في هذا الجواب‏.‏

 فصــل

وأما قيام الليل وصيام النهار فالأفضل في ذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏أفضل القيام قيام داود؛ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وأفضل الصيام صيام داود، كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى‏)‏ وقد ثبت /في الصحاح أن عبد اللّه بن عمرو قال‏:‏ لأصومن النهار، ولأقومن الليل، ولأقرأن القرآن كل يوم‏.‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تفعل فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ـ أي غارت ـ ونفهت له النفس ـ أي سئمت ـ ولكن صم من كل شهر ثلاثة أيام، فذلك صيامك الدهر‏)‏ يعني الحسنة بعشر أمثالها‏.‏ فقال‏:‏ إني أطيق أفضل من ذلك‏.‏ فما زال يزايده، حتى قال‏:‏ ‏(‏صم يوما وأفطر يوما‏)‏ قال‏:‏ اني أطيق أفضل من ذلك، قال‏:‏ ‏(‏لا أفضل من ذلك‏)‏ وقال له‏:‏ في القراءة ‏(‏اقرأ القرآن في كل شهر‏)‏، فما زال يزايده حتى قال‏:‏ ‏(‏اقرأ في سبع‏)‏ وذكر له أن أفضل القيام قيام داود، وقال له‏:‏ ‏(‏إن لنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزوجك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه‏)‏ فبين له صلى الله عليه وسلم أن المداومة على هذا العمل تغير البدن والنفس وتمنع من فعل ما هو آجر من ذلك من القيام لحق النفس والأهل والزوج‏.‏

وأفضل الجهاد والعمل الصالح، ما كان أطوع للرب، وأنفع للعبد‏.‏ فإذا كان يضره ويمنعه مما هو أنفع منه، لم يكن ذلك صالحًا، وقد ثبت في الصحيح أن رجالًا قال أحدهم‏:‏ أما أنا فأصوم لا أفطر، وقال الآخر‏:‏ أما أنا فأقوم لا أنام، وقال الآخر‏:‏ أما أنا فلا آكل اللحم ،وقال الآخر‏:‏ أما أنا فلا أتزوج النساء، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏/‏(‏ ما بال رجال يقول أحدهم كيت وكيت، لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني‏)‏ فبين صلى الله عليه وسلم أن مثل هذا الزهد الفاسد، والعبادة الفاسدة ليست من سنته، فمن رغب فيها عن سنته فرآها خيرًا من سنته، فليس منه‏.‏

وقد قال أبي بن كعب‏:‏ عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه خاليا فاقشعر جلده من خشية اللّه، إلا تحاتّت عنه خطاياه، كما يتحاتّ الورق اليابس عن الشجر، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه خاليا، ففاضت عيناه من خشية اللّه، إلا لم تمسه النار أبدًا، وإن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم إن كانت اجتهادًا أو اقتصادًا على منهاج الأنبياء وسنتهم‏.‏ وكذلك قال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة‏.‏

وقد تنازع العلماء في سرد الصوم إذا أفطر يومي العيدين، وأيام منى‏.‏ فاستحب ذلك طائفة من الفقهاء والعباد، فرأوه أفضل من صوم يوم، وفطر يوم‏.‏ وطائفة أخرى لم يروه أفضل، بل جعلوه سائغًا بلا كراهة، وجعلوا صوم شطر الدهر أفضل منه، وحملوا ما ورد في ترك صوم الدهر على من صام أيام النهى‏.‏ والقول الثالث‏:‏/وهو الصواب قول من جعل ذلك تركًا للأولى، أو كره ذلك‏.‏ فإن الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم كنهيه لعبد اللّه بن عمرو عن ذلك، وقوله‏:‏ ‏(‏من صام الدهر فلا صام، ولا أفطر‏)‏ وغيرها صريحة في أن هذا ليس بمشروع‏.‏

ومن حمل ذلك على أن المراد صوم الأيام الخمسة، فقد غلط، فإن صوم الدهر لا يراد به صوم خمسة أيام فقط، وتلك الخمسة صومها محرم‏.‏ ولو أفطر غيرها فلم ينه عنها لكون ذلك صومًا للدهر، ولا يجوز أن ينهي عن صوم أكثر من ثلاثمائة يوم، والمراد خمسة، بل مثال هذا مثال من قال‏:‏ ائتني بكل من في الجامع، وأراد به خمسة منهم‏.‏ وأيضًا، فإنه علل ذلك بأنك إذا فعلت ذلك‏:‏ هجمت له العين، ونفهت له النفس، وهذا إنما يكون في سرد الصوم، لا في صوم الخمسة‏.‏

وأيضًا، فإن في الصحيح أن سائلا سأله عن صوم الدهر، فقال‏:‏ ‏(‏من صام الدهر فلا صام ولا أفطر‏)‏ ‏.‏ قال‏:‏ فمن يصوم يومين ويفطر يوما، فقال‏:‏ ‏(‏ومن يطيق ذلك‏؟‏‏!‏‏)‏ قال‏:‏ فمن يصوم يومًا، ويفطر يومين، فقال‏:‏ ‏(‏وددت أني طُوِّقت ذلك‏)‏ ، فقال‏:‏ فمن يصوم يومًا ويفطر يومًا، فقال‏:‏ ذلك أفضل الصوم‏)‏ فسألوه عن صوم الدهر، ثم عن صوم ثلثيه، ثم عن صوم ثلثه، ثم عن صوم شطره‏.‏

/وأما قوله‏:‏ ‏(‏صيام ثلاثة أيام من كل شهر يعدل صيام الدهر‏)‏ ،وقوله‏:‏ ‏(‏من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال، فكأنما صام الدهر‏.‏ الحسنة بعشر أمثالها‏)‏ ونحو ذلك، فمراده أن من فعل هذا يحصل له أجر صيام الدهر بتضعيف الأجر، من غير حصول المفسدة، فإذا صام ثلاثة أيام من كل شهر، حصل له أجر صوم الدهر بدون شهر رمضان‏.‏ وإذا صام رمضان وستًا من شوال، حصل بالمجموع أجر صوم الدهر، وكان القياس أن يكون استغراق الزمان بالصوم عبادة، لولا ما في ذلك من المعارض الراجح، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الراجح، وهو إضاعة ما هو أولي من الصوم، وحصول المفسدة راجحة فيكون قد فوت مصلحة راجحة واجبة أو مستحبة، مع حصول مفسدة راجحة على مصلحة الصوم‏.‏

وقد بين صلى الله عليه وسلم حكمة النهي، فقال‏:‏ ‏(‏من صام الدهر فلا صام ولا أفطر‏)‏ فإنه يصير الصيام له عادة، كصيام الليل، فلا ينتفع بهذا الصوم، ولا يكون صام، ولا هو ـ أيضًا ـ أفطر‏.‏

ومـن نقـل عـن الصحابة أنه سـرد الصوم، فقد ذهب إلى أحد هذه الأقوال‏.‏ وكذلك من نقل عنه أنه كان يقوم جميع الليل دائمًا، أو أنه يصلي الصبح بوضوء العشاء الآخرة، كذا كذا سنة، مع أن كثيرًا من المنقول من ذلك ضعيف‏.‏ وقال عبد اللّه بن مسعود لأصحابه‏:‏ أنتم/ أكثر صومًا وصلاة من أصحاب محمد، وهم كانوا خيرًا منكم‏.‏ قالوا‏:‏ لِمَ يا أبا عبد الرحمن ‏؟‏ قال‏:‏ لأنهم كانوا أزهد في الدنيا، وأرغب في الآخرة‏.‏

فأما سرد الصوم بعض العام، فهذا قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، قد كان يصوم حتى يقول القائل‏:‏ لا يفطر‏.‏ ويفطر حتى يقول القائل‏:‏لا يصوم‏.‏

وكذلك قيام بعض الليالي جميعها‏.‏ كالعشر الأخير من رمضان، أو قيام غيرها أحيانًا، فهذا مما جاءت به السنن‏.‏ وقد كان الصحابة يفعلونه، فثبت في الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان شد المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله كله‏.‏

وفي السنن أنه قام بآية ليلة حتى أصبح‏:‏ ‏{‏إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏118‏]‏، ولكن غالب قيامه كان جوف الليل، وكان يصلي بمن حضر عنده، كما صلى ليلة بابن عباس، وليلة بابن مسعود، وليلة بحذيفة بن اليمان، وقد كان أحيانًا يقرأ في الركعة بالبقرة والنساء وآل عمران، ويركع نحوًا من قيامه، يقول في ركوعه‏:‏ ‏(‏سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم‏)‏ ويرفع نحوًا من ركوعه،/يقول‏:‏ ‏(‏لربي الحمد، لربي الحمد‏)‏ ويسجد نحوًا من قيامه يقول‏:‏ ‏(‏سبحان ربي الأعلي، سبحان ربي الأعلي‏)‏ ويجلس نحوًا من سجوده يقول‏:‏ ‏(‏رب اغفر لي، رب اغفر لي‏)‏ ويسجد‏.‏

وأما الوصال في الصيام، فقد ثبت أنه نهي عنه أصحابه، ولم يرخص لهم إلا في الوصال إلى السحر، وأخبر أنه ليس كأحدهم‏.‏ وقد كان طائفة من المجتهدين في العبادة يواصلون، منهم من يبقي شهرًا لا يأكل ولا يشرب، ومنهم من يبقي شهرين وأكثر وأقل‏.‏ ولكن كثير من هؤلاء ندم على ما فعل، وظهر ذلك في بعضهم‏.‏ فإن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بطريق اللّه، وأنصح الخلق لعباد اللّه، وأفضل الخلق، وأطوعهم له، وأتبعهم لسنته‏.‏

والأحوال التي تحصل عن أعمال فيها مخالفة السنة، أحوال غير محمودة ـ وإن كان فيها مكاشفات، وفيها تأثيرات ـ فمن كان خبيرًا بهذا الباب، علم أن الأحوال الحاصلة عن عبادات غير مشروعة كالأموال المكسوبة بطريق غير شرعي، والملك الحاصل بطريق غير شرعي‏.‏ فإن لم يتدارك اللّه عبده بتوبة، يتبع بها الطريق الشرعية، وإلا كانت تلك الأمور سببًا لضرر يحصل له، ثم قد يكون مجتهدًا مخطئًا مغفورًا له خطؤه‏.‏ وقد يكون مذنبًا ذنبا مغفورًا لحسنات ماحيـة، وقـد يكـون مبتلى بمصائب تكفـر عنـه، وقـد يعاقب بسلب تلك الأحوال، /وإذا أصر على ترك ما أمر به من السنة، وفعل ما نهى عنه، فقد يعاقب بسلب فعل الواجبات، حتى قد يصير فاسقا أو داعيا إلى بدعة‏.‏ وإن أصر على الكبائر، فقد يخاف عليه أن يسلب الإيمان‏.‏ فإن البدع لا تزال تخرج الإنسان من صغير إلى كبير، حتى تخرجه إلى الإلحاد والزندقة، كما وقع هذا لغير واحد ممن كان لهم أحوال من المكاشفات والتأثيرات، وقد عرفنا من هذا ما ليس هذا موضع ذكره‏.‏

فالسنة مثال سفينة نوح‏:‏ من ركبها، نجا‏.‏ ومن تخلف عنها، غرق‏.‏ قال الزهري‏:‏ كان من مضي من علمائنا يقولون‏:‏ الاعتصام بالسنة نجاة وعامة من تجد له حالا من مكاشفة أو تأثير، أعان به الكفار أو الفجار أو استعمله في غير ذلك من معصية، فإنما ذاك نتيجة عبادات غير شرعية، كمن اكتسب أموالًا محرمة فلا يكاد ينفقها إلا في معصية اللّه‏.‏

والبدع نوعان‏:‏ نوع في الأقوال والاعتقادات، ونوع في الأفعال والعبادات‏.‏ وهذا الثاني يتضمن الأول، كما أن الأول يدعو إلى الثاني‏.‏

فالمنتسبون إلى العلم والنظر وما يتبع ذلك يخاف عليهم إذا لم يعتصموا بالكتاب والسنة مـن القسم الأول‏.‏والمنتسبون إلى العبادة والنظـر والإرادة ومـا يتبـع ذلك، يخاف عليهم إذا لم يعتصموا بالكتاب/والسـنة مـن القسم الثاني‏.‏وقـد أمـرنا اللّه أن نقـول في كل صـلاة‏:‏ ‏{‏\ اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6، 7‏]‏ آمين‏.‏

وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏اليهود مغضوب عليهم، والنصاري ضالون‏)‏ قال سفيان بن عُيَيْنَة‏:‏ كانوا يقولون‏:‏ من فسد من العلماء، ففيه شبه من اليهود‏.‏ ومن فسد من العُبٌاد، ففيه شبه من النصاري‏.‏ وكان السلف يقولون‏:‏ احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون‏.‏ فطالب العلم إن لم يقترن بطلبه فعل ما يجب عليه، وترك ما يحرم عليه من الاعتصام بالكتاب والسنة، وإلا وقع في الضلال‏.‏

وأهل الإرادة إن لم يقترن بإرادتهم طلب العلم الواجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وإلا وقعوا في الضلال والبغي، ولو اعتصم رجل بالعلم الشرعي من غير عمل بالواجب، كان غاويا‏.‏ وإذا اعتصم بالعبادة الشرعية من غير علم بالواجب كان ضالا‏.‏ والضلال سمة النصاري، والبغي سمة اليهود، مع أن كلا من الأمتين فيها الضلال والبغي‏.‏ ولهذا تجد من انحرف عن الشريعة في الأمر والنهي من أهل الإرادة والعبادة والسلوك والطريق، ينتهون إلى الفناء الذي لا يميزون فيه بين المأمور والمحظور، فيكونون فيه متبعين أهواءهم‏.‏

وإنما الفناء الشرعي أن يفني بعبادة اللّه عن عبادة ما سواه،/ وبطاعته عن طاعة ما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبسؤاله عن سؤال ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وهذا هو إخلاص الدين للّه وعبادته وحده لا شريك له، وهو دين الإسلام الذي أرسل اللّه به الرسل، وأنزل به الكتب‏.‏

وتجد ـ أيضا ـ من انحرف عن الشريعة من الجبر والنفي والإثبات من أهل العلم والنظر والكلام والبحث، ينتهي أمرهم إلى الشك والحيرة، كما ينتهي الأولون إلى الشطح والطامات، فهؤلاء لا يصدقون بالحق، وأولئك يصدقون بالباطل، وإنما يتحقق الدين بتصديق الرسول في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر باطنا وظاهرًا، من المعارف والأحوال القلبية، وفي الأقوال والأعمال الظاهرة‏.‏

ومن عَظَّمَ مطلق السهر والجوع، وأمر بهما مطلقًا، فهو مخطئ، بل المحمود السهر الشرعي، والجوع الشرعي، فالسهر الشرعي كما تقدم من صلاة أو ذكر أو قراءة أو كتابة علم أو نظر فيه أو درسه أو غير ذلك من العبادات‏.‏ والأفضل يتنوع بتنوع الناس، فبعض العلماء يقول‏:‏ كتابة الحديث أفضل من صلاة النافلة، وبعض الشيوخ يقول‏:‏ ركعتان أصليهما بالليل حيث لا يراني أحد أفضل من كتابة مائة حديث،وآخر من الأئمة يقول‏:‏ بل الأفضل فعل هذا وهذا، والأفضل يتنوع بتنوع أحوال الناس، فمن الأعمال ما يكون جنسه أفضل، ثم يكون/ تارة مرجوحًا أو منهيًا عنه‏.‏ كالصلاة‏.‏ فإنها أفضل من قراءة القرآن، وقراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، ثم الصلاة في أوقات النهي ـ كما بعد الفجر والعصر ووقت الخطبة ـ منهي عنها‏.‏ والاشتغال ـ حينئذٍ ـ إما بقراءة أو ذكر أو دعاء أو استماع أفضل من ذلك‏.‏

وكذلك قراءة القرآن أفضل من الذكر، ثم الذكر في الركوع والسجود هو المشروع‏.‏ دون قراءة القرآن، وكذلك الدعاء في آخر الصلاة هو المشروع دون القراءة والذكر، وقد يكون الشخص يصلح دينه على العمل المفضول دون الأفضل، فيكون أفضل في حقه، كما أن الحج في حق النساء أفضل من الجهاد‏.‏

ومن الناس من تكون القراءة أنفع له من الصلاة، ومنهم من يكون الذكر أنفع له من القراءة، ومنهم من يكون اجتهاده في الدعاء لكمال ضرورته أفضل له من ذكر هو فيه غافل‏.‏ والشخص الواحد يكون تارة هذا أفضل له، وتارة هذا أفضل له‏.‏ ومعرفة حال كل شخص شخصًا، وبيان الأفضل له، لا يمكن ذكره في كتاب، بل لابد من هداية يهدي اللّه بها عبده إلى ما هو أصلح، وما صدق اللّه عبد إلا صنع له‏.‏

وفي الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل/ يقول‏:‏ ‏(‏اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون‏.‏ اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‏)‏ ‏.‏

 فصــل

وأما الأكل واللباس، فخير الهدي هدي محمدصلي الله عليه وسلم‏.‏ وكان خلقه في الأكل أنه يأكل ما تيسر إذا اشتهاه، ولا يرد موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، فكان إن حضر خبز ولحم، أكله‏.‏ وإن حضر فاكهة وخبز ولحم، أكله‏.‏ وإن حضر تمر وحده أو خبز وحده، أكله‏.‏ وإن حضر حلو أو عسل طَعِمَه ـ أيضًا ـ وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان يأكل القِثَّاء بالرطب‏.‏ فلم يكن إذا حضر لونان من الطعام يقول‏:‏ لا آكل لونين، ولا يمتنع من طعام لما فيه من اللذة والحلاوة‏.‏

وكان ـ أحيانا ـ يمضي الشهران والثلاثة لا يوقد في بيته نار، ولا يأكلون إلا التمر والماء‏.‏ وأحيانا، يربط على بطنه الحجر من الجوع، وكان لا يعيب طعامًا، فإن اشتهاه أكله، وإلا تركه‏.‏ وأكل على /مائدته لحم ضب فامتنع من أكله، وقال‏:‏ ‏(‏إنه ليس بحرام، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه‏)‏ ‏.‏

وكذلك اللباس، كان يلبس القميص والعمامة، ويلبس الإزار والرداء ويلبس الجبة

والفَرُوج، وكان يلبس من القطن والصوف، وغير ذلك‏.‏ لبس في السفر جبة صوف، وكان يلبس مما يجلب من اليمن وغيرها، وغالب ذلك مصنوع من القطن، وكانوا يلبسون من قباطي مصر، وهي منسوجة من الكتان‏.‏ فسنته في ذلك تقتضي أن يلبس الرجل ويطعم مما يسره الله ببلده، من الطعام واللباس‏.‏ وهذا يتنوع بتنوع الأمصار‏.‏

وقـد كـان اجتمع طائفـة من أصحابه على الامتناع من أكل اللحم ونحوه، وعلي الامـتناع مـن تزوج النساء، فـأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏المائـدة‏:‏ 87، 88‏]‏،

وفي الصحيحين عنه أنه بلغه أن رجالاً قال أحدهم‏:‏ أمـا أنا، فأصوم لا أفطر‏.‏ وقال الآخر‏:‏ أما أنا، فأقوم لا أنام‏.‏ وقال الآخر‏:‏ أما أنا فلا أتزوج النساء‏.‏ وقـال الآخر‏:‏ أمـا أنا، فـلا آكل اللحـم‏.‏ فقـال‏:‏ ‏(‏لكني أصوم وأفطر، وأقـوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكـل اللحم، فمـن رغب عـن سنتي فليس مني‏)‏ ، وقـد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏172‏]‏ فأمـر بأكل الطيبات، والشكر صلى الله عليه وسلم، فمن حرم الطيبات كان معتدياً، ومن لم يشكر كان مفرطًا مضيعًا لحق الله‏.‏ وفي صحيـح مسلم عـن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله ليرضى عـن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها‏)‏‏.‏ وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الطاعم الشاكر، بمنزلة الصائم الصابر‏)‏ ‏.‏

فهذه الطريقة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أعدل الطرق وأقومها‏.‏ والانحراف عنها إلى وجهين‏:‏

قوم يسرفون في تناول الشهوات، مع إعراضهم عن القيام بالواجبات، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏59‏]‏‏.‏

وقوم يحرمون الطيبات، ويبتدعون رهبانية، لم يشرعها الله ـ تعالي ـ ولا رهبانية في الإسلام‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏،

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏‏.‏

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله أمر المؤمنين/بما أمر به المرسلين، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 172‏]‏‏.‏ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء‏:‏ يارب، يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأني يستجاب لذلك‏.‏ وكل حلال طيب، وكل طيب حلال‏.‏ فإن الله أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، لكن جهة طيبه، كونه نافعًا لذيذًا‏.‏

و الله حرم علينا كل ما يضرنا، وأباح لنا كل ما ينفعنا، بخلاف أهل الكتاب فإنه ـ بظلم منهم ـ حرم عليهم طيبات أحلت لهم، فحرم عليهم طيبات عقوبة لهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يحرم علينا شيئًا من الطيبات، والناس تتنوع أحوالهم في الطعام واللباس والجوع والشبع، والشخص الواحد يتنوع حاله، ولكن خير الأعمال ما كان صلى الله عليه وسلم أطوع، ولصاحبه أنفع، وقد يكون ذلك أيسر العملين، وقد يكون أشدهما‏.‏ فليس كل شديد فاضلا، ولا كل يسير مفضولا، بل الشرع إذا أمرنا بأمر شديد، فإنما يأمر به لما فيه من المنفعة، لا لمجرد تعذيب النفس‏.‏ كالجهاد الذي قال فيه تعالي‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏216‏]‏‏.‏

/والحج هو الجهاد الصغير؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة ـ رضي الله عنها ـ في العمرة‏:‏ ‏(‏أجرك على قدر نَصَبِك‏)‏ وقال تعالى في الجهاد‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 210‏]‏‏.‏

وأما مجرد تعذيب النفس والبدن من غير منفعة راجحة، فليس هذا مشروعًا لنا، بل أمرنا الله بما ينفعنا، ونهانا عما يضرنا‏.‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين‏)‏ وقال لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن‏:‏ ‏(‏يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا‏)‏ ،وقال‏:‏ ‏(‏هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فاستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا‏)‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة‏)‏ ‏.‏

فالإنسان إذا أصابه في الجهاد والحج أو غير ذلك حر أو برد أو جوع، ونحو ذلك‏.‏ فهو مما يحمد عليه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 81‏]‏‏.‏

وكذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الكفارات‏:‏ إسباغ الوضوء / على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط‏)‏ ‏.‏

وأما مجرد بروز الإنسان للحر والبرد بلا منفعة شرعية، واحتفاؤه وكشف رأسه، ونحو ذلك مما يظن بعض الناس أنه من مجاهدة النفس، فهذا إذا لم يكن فيه منفعة للإنسان، وطاعة صلى الله عليه وسلم، فلا خير فيه‏.‏ بل قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلاً قائمًا في الشمس، فقال‏:‏ ‏(‏ما هذا‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه‏)‏ ‏.‏

ولهذا نهي عن الصمت الدائم، بل المشروع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من كان يؤمن ب الله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت‏)‏‏.‏ فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه، والسكوت عن الشر خير من التكلم به‏.‏